أجرى، الأستاذ في العلوم السياسـية، بالمدرسة العليا للصحافة وعلوم الإعلام، بالجزائر العاصمة، شريف دريس، دراسة تقييمية لواقع الإعلام في الجزائر، مقابل » التوظيف السياسي للإشهار العمومي كوسيلة رقابة على وسائل الإعلام »(دراسة).
مجال إعلامي بحدود غير واضحة :
واعتبر الباحث، والكاتب، والاستاذ الجامعي، أن » المجال الإعلامي في الجزائر لا يزال مجال بحدود غير واضحة « ، بعد ذلك الإنفتاح الديمقراطية سنة 1989، الذي أعقبه اتساع ميدان وسائل الإعلام مع ظهور عشرات الصحف الخاصة، لتكسر إحتكار إعلام الحزب الواحد، وصدور قانون الإعلام سنة 1990 ليعززه القانون العضوي لسنة 2012، بعد جملة إصلاحات سياسية أعلنها الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، كإجراء لتفادي مدّ الثورات العربية التي أسقطت عدد من رؤساء الدول العربية على رأسها تونس ومصر، حينها وصل عدد الصحف إلى 321، من ضمنها 149 صحفية بمتوسط سحب بلغ 2.5 مليون نسخة ، حسب أرقام وزارة الإتصال، لكنها ، يقول الكاتب « وفرة عكست سوء التنظيم، بعد توسع دائرة جمهور القراء، التي بلغت حسب استطلاع أجرته « ميديا-أند-سارفوري » قرابة 1.3 مليون قراء.
لكنها شهدت، في السنوات الأخيرة، « تراجعا بعد مرورها بأشد الأزمات في تاريخها ، مع إغلاق عشرات الصحف تحديدا بسبب تراجع عائدات الإشهار »، خاصة بعد سنة 2015. لكن « ..مع حلول عام 2011 شهد المشهد الإعلامي اتساعا كبـير بظهور القنوات التلفزيونية الخاصة. فعلى الرغم من أن الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، كان حذرا من الصحافة المكتوبة، وكان يخشى ظهـور قنوات تلفزيونية خاصة مستقلة إلا أنه تم ترخيص بنشاط هــذه الأخيرة للحد من تأثر بعض القنوات العربية كالجزيرة في المقام الأول، ثم المغاربية، واحتواء ميولهم لإستيراد الثورات العربية إلى الجزائر »، يقول صاحب الدراسة.
لكن، » الغالبية العظمى من هذه القنوات الجديدة، مثل قناة النهار، الشروق، الجزائرية، دزاير تي في، نوميديا نيوز، الهقار تي في، والبلاد تي في، أنشأتها الصحف الخاصة. وقـد أثار ظهور هذه القنوات في وقت مبكر جدا مسألة مدى قانونيتها. في الواقع، قبل صـدور نصوص القوانين ، كالقانون العضوي لعام 2012 ، والمرسوم التنفيذي بشأن الوسائل السمعية البصرية لعام 2014 ودفتر الأعباء 2016 ، ولم يكن لهذه القنوات التي تبث من الخارج بفضل عرض النطاق الترددي، أساس قانوني واضح. إنها بالتأكيد مملوكة لرأس مال جزائري وتعمل على الأراضي الجزائرية، لكنها، مع ذلك، لا تعتبر مؤسسات ذات طابع قانوني جزائري. وبالتالي، فإن نوميديا نيوز هي شركة بموجب القانون السويسري، وتخضع القناتين، أطلس تي في، والجزائرية للقانون البريطاني »، وهو ما يعكس توجس السلطة الرهيب، في هذا الإنفتاح الإعلامي في شقه المتعلق بالسمعي البصري، قبل أن تقرر، غلق عدد من القنوات التلفزيونية، في سنة 2021، كالجزائرية وان، و « لينا تي في »، وتوقيف بث مؤقت لـ »الحياة تي في » و « البلاد تي في »، رغم أنها مؤسسات توصف بـ »الدعائية للسلطة بامتياز ». ورغم فتح السلطة، لـ »باب التسوية معها في مارس 2014، مع إصدار قانون السمعي البصري و واعتماد خمس قنوات تلفزيونية فقط تتعلق بـ »النهار، الشروق، ابلاد، الهقار، الجزائرية »، إلا أنه حرمتها من صفة القنوات العامة »، حتى يظل الخطاب الإعلامي تحت سيطرة السلطات العمومية، بعدما تم تحديد الأحكام القانونية لمنح الإعتمادات ، لتكون مساحة المناورة الخاصة بهذه القنوات ، ضيقة جدا ، ومع ذلك، تمكنت بعض القنوات من التفاوض على مجال معين، مثل النهار والشروق، من خلال ترسيخ نفسها كأبواق غير رسمية للسلطة السياسية. وسمح لهم هذا الولاء بأن يكونوا أول من يعلن القرارات المهمة بدلا من أجهزة الدولة الإعلامية مثل التلفزيون الوطني، الإذاعة الوطنية أو وكالة الأنباء الرسمية ».
سوق إشهاري بدون إطار قانوني مناسب
واعتبر الكاتب، دريس شريف أن » ظهور وتوسع سوق المعلنين في الجزائر، خاصة الإشهار التجاري الخاص، إمكانية تجاوز ضغوط الدولة من خلال شركة نشر والإشهار « أناب »، لينتقل هذا السوق من « 69 مليون دولار في 2006 إلى 200 مليون دولار ما بين سنتي 2015 و 2016، وتمت في إطار ذلك إدارة ما بين 70 إلى 80 في المئة من المبيعات من قبل حوالي 400 وكالة إعلانية »، لكن المشار إليه أن في الدراسة أن « جزءا كبيرا من هذا السوق الخاص بعالم الإشهار مملوك لشركات اجنبية كشركة « جي.أس.ديكو »، و « أورو.أر.سي.أس.جي »، و « تي.وي.تي » و « بيبليسيس » ، التي لديها عقود حصرية دولية مع شركات اجنبية تأسست في الجزائر مثل ، « بيجو » و « كوكا كولا ».
وخلال » الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2015 ، مثلت الإعلانات على القنوات التليفزيونية 84.2 في المئة من الاستثمارات الإعلانية لشركات السيارات والمواد الغذائية، أي ما يعادل أكثر من 8.6 مليار د.ج أي قرابة 73 مليون أورو.
الدعاية و « البروباغندا » المؤسساتية بإيعاز سياسي
ولم يتغير، التشريع في جانب تنظيم سوق الإشهار والإعلانات في الجزائر، منذ عهد حكومة بلعيد عبدالسلام، من خلال المرسوم التنفيذي المؤرخ في أوت 1993، الذي يعهد إدارة الميزانيات الإعلانية الخاصة بالإشهار للشركة الوطنية للإذاعة الصوتية، حيث تم دائما تأجيل تنفيذ مزيد من الإصلاحات في قطاع الإشهار، معا يعكس الإرادة في استمرار تسيس توزيع الإشهار المؤسساتي ، أين عمدت حكومة مقداد سيفي وأحمد أويحي عام 1994 و1998 ، أين أصدر رئيس الحكومة الأسبق، أويحي، تعليمة في أوت 2004، لم تنشر، على منح الإشهار العمومي وفقا للولاء السياسي للصحــف، أين أمر بموجبها الإدارات العامة والمؤسسات الإقتصادية العامة، والمؤسسات العامة ذات الطابع الصناعي والتجاري لتوجيه، منح إعلاناتها ودعاياتها والتعاقد عليها حصريا مع الوكالة الوطنية للإتصال والنشر والإشهار « أناب »، كما نصت التعليمة على رفض أي نفقات إعلانية أو دعائية مبرمجة اعتبارا من الفاتح سبتمبر 2004، إذا لم تحترم هذه التعليمة وستشكل انتهاكًا من قبل المسؤولين المعنيين « ، يقول صاحب الدراسة.
وفي وقت « كان فيه من المفروض أن يوقع القانون العضوي للإعلام لسنة 2012، شهادة الوفاة بالخضوع للسلطة السياسية في سبيل إعادة توزيع الإشهار العمومي والسماح بتنظيم أفضل للمساحة الإعلامية مــع الترخيص للفاعلين في القطاع الخاص بإنشاء قنوات تلفزيونية ومحطات إذاعية خاصة، لكن هذا ما يحدث. إذ لم تقم الدولة إلا بإعادة ابتكار إدارة الإشهار مــن خلال فـرض قيود على عدد صفحات الإشهار المدرجة في إحدى الصحف، وبالتالي وفقا للمادة 28، من القانون العضوي الجديد لإعلام، يجـب ألا تتجاوز مساحة الإعلان ثلث المساحة الإجمالية للنشر »، وأضافت الدراسة بأنه » في غياب أوامر سياسية صريحة ومباشرة، تلجأ السلطة السياسية إلى طرق ذكية يمكن وصفه بنوع من « القومية الإقتصادية » تبرر من خلالها إجـراءات السيطرة والإحتكار التي تمارسها وكالة « أناب »، باسم حماية القطاع العام ومع ذلك، من المفروض أن يؤدي تنوع العروض الإشهارية إلى وضع حد لإحتكار الدولة لسوق الإشهار. لكن الواقع يتعارض مع هذه الحقيقة بأي طريقة؟ لتظل الصحافة المكتوبة الحلقة الضعيفـة، بعد تراجع في السحب، الديون وتراجع عائدات الإشهار، وأمام هذا الوضع لا يمكن إلا أن يعزز مكانة « أناب »، التي أصبحت بالضرورة، الملجأ الوحيد للصحف ذات التوزيع الضئيل، أو حتى التوزيع الواسع. في الواقع، أصبحت الأوامر السياسية ذات أهمية متزايدة، لتشهد تصريحات وزير الإتصال الأسبق، حميد قرين سنة 2017 ، على ذلك حين قال » بصفتي وزيرا للإتصال، لا يهمني حجـم سـحب الجريدة إذا كانت هـذه الأخيرة تشـتم، تهين وتشـوه السمعة وتنشر الفتنة »، مضيفا أنه » عندما عينت وزيراً، تلقيـت شـكاوى مـن أصحاب الصحف الذين اشتكوا مـن اختيـارات المعلنين، الأن أحيلهـم على وكالة « أناب »..هناك يتم توزيع الإشهار وفقا لمعايير محددة مسبقا : احترام أخلاقيات الصحافة ومؤسسات الدولة، المهنية التي لا علاقة لها بالسحب، والإبتعاد عن القذف والإبتزاز »، في إشارة واضحة لتعزيز مكانة الوكالة كأداة لتوزيع الحصص بناءا على الولاء السياسي للسلطة.
وخلال عقدين، من حكم بوتفليقة، كان إنشاء شبكات الإعلام مبنية على المحاباة والإستقطاب، فتعيين جمال كعوان، كمدير لوكالة النشر والإشهار ثم وزيرا لإتصال، بعدما شغل منصب مدير النشر في جريدة ملك لرجل الأعمال و الدراع الأيمن لنظام بوتفليقة، علي حداد، لغاية المدير العربي ونوغي الذي كشف بالأرقام التي تعكس تلك المحاباة بين مالكي ونشري الصحف وعلاقاتهم السياسية بالسلطة ».
فعلاقة الزبونية » هذه، تصف الدراسة، تتجلى في صحيفة « البلاغ » و »البلاغ الرياضي » التي يمتلكها نجم كرة القدم السابق، رابح ماجر، أين كان هذا الأخير نشطا جدا في حملتي العهدتين الثالثة و الرابعة لبوتفليقة في الإمارات وقطر، وفرض رابح ماجر كمدرب للمنتخب الوطني، قبل إقالته سنة 2018.. »، إضافة » إلى جريدة « إيدوغ نيوز » بعنابة التي يملكها أحد أبناء رئيس أركان الجيش الوطني الشعبي الأسبق، الفريق أحمد قايد صالح، وجريدة « تريبون-دي-لكتور » لنائب رئيس حزب جبهة التحرير الوطني، عبدالحميد سي عفيف، وجريدة « الأجواء » للراحل ميلود شرفي، نائب رئي حزب التجمع الوطني الديمقراطي ، و الرئيس السابق لسلطة السمعي البصري و جريدة « لاديباش-دو-كابيلي » لمؤسسها الوزير الأسبق عمارة بن يونس.
كما كشفت ، الانتفاضة الشعبية، من خلال مسيرات الحراك الشعبي ، » عن الصلة بــن الإشهار العمومي ومنطق النظام السياسي إلى درجة أن الصحـف ذات السحب الكبير، مثل الشروق والنهار وحتى الخبر ومساء الجزائر، التي كان خطها التحريري مستقل إلى حد ما حتى ذلك الحين، انحازت إلى خارطة طريق السلطة السياسية التي كانت تهدف إلى فرض انتخابات رئاسية، ألغيت في جويلية 2019.. »، يختم الباحث دريس شريف دراسته.